وداعا صديقي

اقتربت لحظة الغروب ،فمددت يدي لأضع الزورق يشق طريقه نحو المجهول عبر أمواج البحر،في انتظار اليوم الذي يعود فيه حاملا معه خبرا عن صديقي الذي كان يشاركني عشق البحر و غروب الشمس، بعد أن ترسخت في ذهنه أنها تبزغ على عالم آخر يوهم كل من يحمل بذرة الشباب بأنه تحقق فيه الأحلام وتنتشل التائه من الضياع والعجز عن إتبات الذات أما م الآفات التي تنخر البلاد حتى غدت عنوان البؤس والهلاك.
هكذا أنا كل خميس أخرج قاصدا البحر ،أجلس على الصخرة التي طالما جمعتني وصديقي أتأمل القارب المبتعد شيئا فشيئا ،ضاما يدي إلى صدري من شدة البرد القارس الذي يبعث الرجفة في أطراف جسدي ،راجعا بالذاكرة لشريط الوداع حين ضمني إلى صدره واستحلفني بالوفاء لعهد صداقتنا الأبدية إلى أن يعود من الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط والتي أدمى زهرة شبابه في البحث عن كل السبل للوصول إليها ،إلى أن اهتدى إلى {الحريق} عبر قوارب الموت.
لقاءاتنا الأخيرة لم تكن تخلو من الحديث عن الجار العائد بالمال والسيارة الفارهة والهدايا للأصحاب والخلان
وحينما نجتمع في المقهى وباقي الأصدقاء لم تكن تهمه أحاديثنا والمزاح الذي يطال كل شيء
وحكايانا عن البنات وآخر الأخبار وما تحمله الجرائد من أحداث ،بل تجده شارذا ،بعيدا بفكره ،يشرب قهوته ويدخن السيجارة حتى تنطفئ بين يديه ويشعر بألم احتراقها بين أصابعه.
كنت أسترق النظر إليه وأخمن أنه يرسم بشروذه هذا، عالمه في إسبانيا حين سيهاجر إليها وأتأكد من ذلك عندما أمازحه قائلا :كيف الجو في إسبانيا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فتعلو وجهه ابتسامة ينشرح لها صدري ويبدأ بالحديث عنها كأنه يتحدث عن محبوبته ،وعيناه تنطقان بشغف كبير لمعانقتها ،وعندما تقترب الشمس من الغروب يبادرني مسرعا بضربة كف على كتفي حتى نشد الرحال إلى البحر ونجعله ختاما مسكا ليومنا.

البحر لم يفارقنا منذ الطفولة ،هو الأنيس والصديق والخل الذي تكتمل معه صداقتنا ،هو ملجأنا وبئر أسرارنا ومكان لهونا وممارسة هوايتنا.
صناعة القوارب الورقية كانت هوايتنا المفضلة ،لكم استمتعنا بمشاهدتها وهي تصارع الأمواج وتسير شاقة طريقها بينها إلى أن تختفي
كنت ولا زلت أعتقدها قوارب لهو ولم يخطر ببالي أنه سيأتي يوم يصبح اسمها قوارب الموت ،ولم أكن أتصور أن هذا اليم يمكن أن يغدر بصديقي ويسلبه مني ويجره إليه حين كبرت برأسه فكرة الهجرة عبر القارب بمساعدة سماسرة الموت إلى إسبانيا ،وما استطعت إقناعه بالعدول عنها
أتذكر قوله لي :البحر يناديني، لا تنسى هو يعرفني ،نحن أصدقاؤه ورفيق دربنا ،لابد أن يساعدني ويكون طوق نجاة لعبوري نحو الضفة الاخرى .
انخدع فيه وأمن له، فكانت حياته ثمنا باهضا دفعه له ولأسماكه التي ربما تمزق أحشاءه الآن وصارت جثته أشلاء ،حتى أنه لم يلفظها بعد ولم يرحمني بمعانقته وهو ميت ،والدعاء له في قبره.
الحديث عن البحر ومع البحر لم يغادرني بعد ،أتذكر تلك الأيام التائهة في أدغال النسيان لا ننفك أنا وصديقي عن مداعبته بالكلمات والتراشق بمياهه،
أما الآن فأجدني أيضا ودون شعور مني أكلمه
لكم تمنيت أن ينطق ويجيبني حين أسأله:هل أخطأنا بحقك ونحن نغازل أمواجك،ونحن نرمي أصدافك تتلقفها مياهك لترسم قطرات تعلو في الهواء تناطح السماء ،ونحن نجر كيس القوارب الوقية إليك،تسافر بنا عبرك،نعانق معك الحرية ونطفئ ظمأ شغفنا بالسفر من خلالك،علنا نلتقي حورية البحر أو نحط بجزيرة الكنوز أو مدينة الأبطال أو ...أو...أو...
رسومتحركة رافقتنا منذ الصغر وتخيلنا أنها حقيقة يمكن أن نلامسها معك .
لكم تمنيت أن يكون كل ما حدث كابوسا ينتهي باستيقاظي منه،أو مشهدا دراميا ينتهي بانتهاء الفيلم

آه يا صديقي أين أنت الآن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟
كنت أقول له دائما:دع عنك هذا الحلم القاتل ،تعال نبني مستقبلنا هنا ،حياتنا بين أهلنا ،جد مكانا لك في وطنك،أتبت ذاتك فيه ،حقق طموحك معه ولأجله.
فيكرر على مسامعي نفس العبارة:البحر يناديني ،ليس لي عليه من سلطان،فأخذ الحقيبة وترك الأسرة مكلومة وقلب صديقه مفجوع.
آه يا صديقي لا أستطيع أن ألومك الآن فهذا هو البحر الذي راهنت عليه ،أقف أمامه بحرقة ،أقسو على نفسي حتى لا يرى عبراتي ،فتخونني إرادتي كلما لاح طيفك يعبر الشاطئ أمامي.
هل ألومه بدلا عنك؟ نعم يا صديقي ،لقد قمت بذلك أكثر من مرة ،كلما كان الحزن يعتريني،كلما شعرت بالغضب يتملكني، أشفي غليلي منه ،فأضرب أمواجه ،وأمرغ يدي في زبده أمحوه ،وأترك آثار الحقد في رماله،وأتحداه فأغوص إلى أعماقه،لأنه أخذك مني وبنهايتك انتهى عندي.....